الاثنين، 20 يناير 2014

إن من الشعر حكمــــــــــــة ...


 أرق بيت شعر قالته العرب، وأهجى بيت، وأمدح بيت، وأفخر بيت ...
 
=================================



( هل هذه الدعوى مسلّم لها ؟! )



الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله 

.
------------------------------------


أما بعد، قال الحافظ ابن عساكر ( ت 571 هـ ) في " تاريخ دمشق " : قرأت في كتاب 


أبي الفرج علي بن الحسين بن محمد الكاتب : أخبرني عمي الحسن ابن محمد، نا أحمد

 بن الحارث، نا المدائني، حدثني أبو عمران بن عبد الملك بن عمير، عن أبيه وحدثنيه

عوانة أيضاً قال : صنع عبد الملك بن مروان طعاماً فأكثر وأطاب ودعا إليه الناس

 فأكلوا، ... ( فقال عبد الملك بن مروان لرجل من بني عذرة ) : هل لك علم بالشعر ؟ 

قال : سلني عما بدا لك يا أمير المؤمنين، قال : أي بيت قالت العرب أمدح ؟

قال : قول جرير :

ألستم خير من ركب المطايا ...... وأندى العالمين بطون راح 




قال : وجرير في القوم، فرفع رأسه وتطاول لها، قال : فأي بيت قالته العرب أفخر ؟


قال: قول جرير :

إذا غضبت عليك بنو تميم ......... حسبت الناس كلهم غضابا




قال : فتحرك جرير، ثم قال : أي بيت أهجا ؟


قال : قول جرير :


فغض الطرف إنك من نمير ....... فلا كعباً بلغت ولا كلابا 



قال : فاستشرف لها جرير، قال : فأي بيت أغزل ؟


قال : قول جرير



إن العيون التي في طرفها حور ....... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا




قال : فاهتز جرير وطرب، ثم قال له : فأي بيت قالت العرب أحسن تشبيهاً ؟


قال : قول جرير :

 سرى نحوهم ليل كأن نجومهم ....... قناديل فيهن الذبال المفتل


فقال جرير : جائزتي للعذري يا أمير المؤمنين، فقال له عبد الملك : وله مثلها من بيت

المال، ولك جائزتك يا جرير لا ننقص منها شيئاً . اهـ . 

قال أبو معاوية البيروتي : ويتكرر ذكر هذه الدعوى في الكتب كثيراً، لكن هل هذه 


الدعوى مسلّمٌ لها عند أهل الشعر ؟

فمن الذين لم يسلّموا بهذه الدعوى في أرق بيت شعر قالته العرب :

- قال محمد بن سلام الجمحي ( ت 232 هـ ) في " طبقات فحول الشعراء " : سألت


الأسيدي أخا بني سلامة عنهما ( أي عن جريرٍ والفرزدق ) فقال : بيوت الشعر أربعة

 فخر ومديح ونسيب وهجاء وفي كلها غلب جرير؛

 في الفخر في قوله :

إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا


وفي المدح قوله :


ألستم خير من ركب المطايا ... وأندى العالمين بطون راح 


وفي الهجاء قوله :


فغض الطرف إنك من نمير ... فلا كعباً بلغت ولا كلابا


وفي النسيب قوله :


إ
ن العيون التي في طرفها مرض ... قتلننا ثم لم يحيين قتلانا



,
وإلى هذا يذهب أهل البادية .
 

.
قال أبو عبد الله محمد بن سلام :
وبيت النسيب عندي 


فلما التقى الحيان ألقيت العصا ... ومات الهوى لما أصيبت مقاتله


قلت للأسيدي : أما والله لقد أوجعكم - يعني في الهجاء -، فقال : يا أحمق أو ذاك يمنعه 


أن يكون شاعراً . اهـ .

- قال ابن الجوزي في " المنتظم " في ترجمة " مسلم بن الوليد الأنصاري / ت 208 ه


ـ " الملقّب بصريع الغواني : بلغنا أن أعرابيًّا دخل على ثعلب ( ت 291 هـ ) فقال له :

 أنت الذي يزعم الناس أنك أعلم الناس بالأدب ؟ قال : كذا يزعمون، قال : أنشدني أرق

بيت قالته العرب وأسلمه ؟ 

فقال : قول جرير :

إن العيون التي في طرفها مرض ......... قتلتنا ثم لم يحيين قتـــــــلانا 


يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ....... وهن أضعف خلق الله إنسانا 



فقال : هذا شعر رث قد لاكه السفهاء بألسنتها ! هات غيره،
فقال ثعلب : أفِدْنا من عندك،


قال : قول مسلم بن الوليد صريع الغواني :

 
نبارز أبطال الوغى فنصدهم ....... وتقتلنا في السلم لحظُ الكواعــــــب


وليست سهام الحرب تفني نفوسَنا ...... ولكن سهامٌ فوقتْ في الحواجب 


فقال ثعلب : اكتبوها على المحاجر ولو بالخناجر !! اهـ .



قال أبو معاوية البيروتي : ومِنَ الذين لم يسلّموا بهذه الدعوى في أفخر بيت شعر قالته


 العرب :

- قال الحسن بن رشيق القيرواني ( ت 463 هـ )


 في ( العمدة في محاسن الشعر وآدابه ) :

  قال دعبل بن علي:

 أفخر الشعر قول كعب بن مالك:

وببئر بدر إذ يرد وجوههم ... جبريل تحت لوائنا، محمد


وقال الحاتمي: قول الفرزدق:

ترى الناس إن سرنا يسيرون خلفنا ... وإن نحن أومأنا إلى الناس وقفوا


قال: ويتلوه قول جرير:


إذا غضبت عليك بنو تميم ... حسبت الناس كلهم غضابا


وقال آخرون: بل بيت الفرزدق:


ونحن إذا عدت معد قديمها ... مكان النواصي من وجوه السوابق


وقال غيرهم: بل قوله لجرير:


وإذا نظرت رأيت فوقك دارماً ... والشمس حيث تقطع الأبصارا


وقيل: بل قول ابن ميادة واسمه الرماح بن أبرد :


ولو أن قيساً قيس عيلان أقسمت ... على الشمس لم يطلع عليك حجابها

قال أبو معاوية البيروتي : ومما قيل في أهجى بيتٍ قاله شاعر :

- قال الحسن بن رشيق القيرواني ( ت 463 هـ ) في " العمدة في محاسن الشعر وآدابه


 " : يقال: إن أهجى بيت قاله شاعر قول الأخطل في بني يربوع رهط جرير:

قوم إذا استنبح الأضياف كلبهم ... قالوا لأمهم: بولي على النا ر


ر
لأنه قد جمع فيه ضروباً من الهجاء : فنسبهم إلى البخل بوقود النار لئلا يهتدي بها 


الضيفان، ثم البخل بإيقادها إلى السائرين والسابلة، ورماهم بالبخل بالحطب، وأخبر عن

 قلتها وأن بولة تطفئها، وجعلها بولة عجوز، وهي أقل من بولة الشابة، ووصفهم بامتهان

 أمهم وابتذالها في مثل هذه الحال، يدل بذلك على العقوق والاستخفاف،

 وعلى أن لا خادم لهم، وأخبر في أضعاف ذلك ببخلهم بالماء .


نقلا عن : ملتقى أهل الحديث : منتدى اللغة العربية وعلومها


-------------------------------------------------


هل تريد أن يُبارَك لك في علمك ؟




قال الإمام الألباني : قال العلماء
: (من بركة العلم عزو كل قول إلى قائله لأن في ذلك 


ترفّعاً عن التزوير .





الأربعاء، 15 يناير 2014

كلام ربـــــــــــــــــــــــــــــــي

 كلام ربـــــــــــــــــــــــــــــــي

===============

قال الله تعالى :


=======

(الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ * وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ 


وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ * ذَلِكَ 

بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ 

لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ *)(محمد : 1-3 )


قال السعدي رحمه الله :


هذه الآيات مشتملات على


ذكر ثواب المؤمنين
،  
وعقاب العاصيــــــن 


والسبب في ذلك دعوة الخلق إلى الاعتبار بذلك ،

 فقال : " الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِاللَّهِ "


وهؤلاء رؤساء الكفر ، وأئمة الضلال الذين جمعوا بين الكفر بالله وآياته ، والصد 

لأنفسهم وغيرهم عن سبيل الله ، التي هي الإيمان بما دعت إليه الرسل واتباعه
 .
فهؤلاء (أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ) ،


 أي : أبطلها وأشقاهم بسببها ، وهذا يشمل أعمالهم التي عملوها

 ليكيدوا بها الحق وأولياء الله . إن الله جعل كيدهم في نحورهم ، فلم يدركوا مما قصدوا 

شيئا ، وأعمالهم التي يرجون أن يثابوا عليها ، إن الله سيحبطها عليهم ، والسبب في ذلك 

أنهم اتبعوا الباطل ، وهو : كل غاية لا يراد بها وجه الله من عبادة الأصنام والأوثان

 . والأعمال التي في نصر الباطل لما كانت باطلة ، كانت الأعمال لأجلها باطلة . "

 وَالَّذِينَ آَمَنُوا " بما أنزل الله على رسله عموما ، وعلى محمد خصوصا ، " وَعَمِلُوا 

الصَّالِحَاتِ " بأن قاموا بما عليهم من حقوق الله ، وحقوق العباد الواجبة والمستحبة 

"كَفَّرَ" الله " عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ " صغارها وكبارها ، وإذا كفرت سيئاتهم ، نجوا من عذاب 

الدنيا والآخرة . " وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ " ، أي : أصلح دينهم ودنياهم ، وقلوبهم وأعمالهم ، 

وأصلح ثوابهم ، بتنميته وتزكيته ، وأصلح جميع أحوالهم ، والسبب في ذلك أنهم :"اتَّبَعُوا

 الْحَقَّ " الذي هو الصدق واليقين ، وما اشتمل عليه هذا القرآن العظيم الصادر " مِنْ

 رَبِّهِمْ" الذي رباهم بنعمته ، ودبرهم بلطفه فرباهم تعالى بالحق ، فاتبعوه ، فصلحت

 أمورهم ،
. 
فلما كانت الغاية المقصودة لهم ، متعلقة بالحق المنسوب إلى الله الباقي ، الحق المبين ،

 كانت الوسيلة صالحة باقية ، باقيا ثوابها . " كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ " حيث بين

 لهم تعالى أهل الخير وأهل الشر ، وذكر لكل منهم صفة يعرفون بها ويتميزون ( لِّيَهْلِكَ 

مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال : 42 )...



الاثنين، 13 يناير 2014

البَلاغة النَّبويَّة وأثرها في النُّفوس


البَلاغة النَّبويَّة وأثرها في النُّفوس
=================
لما أصاب رسول الله الغنائم يوم حنين ، وقسم للمتألفين من قريش وسائر العرب ما قسم ، ولم يكن في الأنصار شيء منها ، قليل ولا كثير ، وجد هذا الحي من الأنصار في أنفسهم حتى قال قائلهم : لقى – والله – رسول الله قومه . فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله فقال :
يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في أنفسهم ؟
قال : فيم ؟
قال : فيما كان من قسمك هذه من الغنائم في قومك وفي سائر العرب ، ولم يكن فيهم من ذلك شيء .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فأين أنت من ذلك يا سعد ؟
قال : ما أنا إلا امرؤ من قومي .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اجمع لي قومك في هذه الحظيرة فإذا اجتمعوا فأعلمني ،
فخرج سعد فصرخ فيهم فجمعهم في تلك الحظيرة . . . حتى إذا لم يبق من الأنصار أحد إلا اجتمع له أتاه ، فقال : يا رسول الله اجتمع لك هذا الحي من الأنصار حيث أمرتني أن أجمعهم . فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقام فيهم خطيبا فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله ، ثم قال : يا معشر الأنصار ألم آتكم ضلالا فهداكم الله ، وعالة فأغناكم الله ، وأعداء فألف الله بين قلوبكم ؟ ؟ ؟
قالوا : بلى !
قال رسول الله : ألا تجيبون يا معشر الأنصار ؟
قالوا : وما نقول يا رسول الله وبماذا نجيبك ؟ المن لله ورسوله .
قال : والله لو شئتم لقلتم فصدقتم وصدقتم :
جئتنا طريدا فآويناك ،
وعائلا فآسيناك ،
وخائفا فأمناك ،
ومخذولا فنصرناك . . .
فقالوا : المن لله ورسوله .
فقال : أوجدتم في نفوسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما أسلموا ، ووكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام ! ! أفلا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس إلى رحالهم بالشاء والبعير وتذهبون برسول الله إلى رحالكم ؟ . فوالذي نفسي بيده ، لو أن الناس سلكوا شعبا وسلكت الأنصار شعبا ، لسلكت شعب الأنصار ، ولولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار . اللهم ارحم الأنصار ، وأبناء الأنصار ، وأبناء أبناء الأنصار . فبكى القوم حتى أخضلوا لحاهم .
وقالوا : رضينا بالله ربا ، ورسوله قسما ، ثم انصرف . . وتفرقوا . .

من المعلوم أن لغة العرب انتقلت بعد الإسلام مِن حالٍ إلى حالٍ ، وتَبدَّلت أوضاعها وسِماتها من مَظْهر إلى مَظْهر ، . وذلك بفضل ما أفاضه عليها القُرْآن من طرائق التعبير ، ورَوائع الأُسْلوب ، وإعجاز الصِّياغة ، وبَرَاعة القَصْد إلى الهَدَف . ثم بما اكْتَسبته من أُسلوب الرسول صَلواتُ الله وسلامُه عليه ، وبيانه السَّاحر ، وحِكَمه البالغة ، وبَلاغته المُؤثِّرة ، وتَصْوير المعاني بأروع الصُّور ،
أجَلْ كانت بَلاغة الرسول الكريم مَضْرِب المَثَل ، ومَوْضِع الدَّهش ، ومَحَل الإعجاب من كُل مَن سَمِعه ، حتى لقد عجب من ذلك البَلِيغ المِنْطِيق: عَلِيّ بن أبي طالب -رَضِي الله عنه- فقال: يا رسولَ الله ، نحنُ بنو أبٍ واحد ، ونراك تُكلِّم وُفود العرب بما لا نَعْرِفه ، فمَن عَلَّمك؟

فقال صلوات الله وسلامه عليه-: أَدَّبَني رَبِّي فأَحْسَن تَأْدِيبي .
وقال له صَفِيُّه وصَدِيقه أبو بكر - رَضِي الله عنه: لقد طُفْتُ في العرب وسَمِعتُ فُصَحاءهم ، فما سَمعتُ أفصح منكَ .
وكان -عليه الصلاةُ والسلامُ- يَعتزُّ بما مَنَحه الله من نَقاء الفِطْرة ، وصفاء القَرِيحة ، وخلابة المَنْطِق ، ورَجَاحة الفِكْر ، فيقول: أنَا أفْصَحُ العَرَب بَيْد أنِّي مِن قُرَيْش ونَشَأْتُ في سَعْد بن بَكْر .

وإذا كان العَرَب أُمَّة البلاغة ، وأئِمَّة الفَصَاحة؛. وإذا كان الكلام صناعتهم التي بها يُباهون ويَتشدَّقون؛ فلا بُدّ أن يكون الرسول الذي يُبَلِّغهم عن ربّهم ، ويَهْدم عقائدهم الباطلة ، ومذاهبهم الزائفة؛ ويُغيِّر ما أَلِفوا من عادات ، وما وَرِثوا من تقاليد . . لا بُدّ أن يكون بيانه أسْمَى من بيانهم ، ومَنْطِقه أبلغ من مَنْطِقهم . ومن هنا كان تَأْيِيد الله سُبْحانه له بمُعْجِزة القرآن ، وحُجَّة البيان .
ومن هنا كان بيانه- عليه السلام- السِّحْر الحلال ، والنَّبْع الدافق ، والمشرع العَذْب الذي يَتفَجَّر من طبع مُهذَّب مَصْقول ، وفِطْرة عريقة أصيلة ،
كان مَوْلِده في بني هاشم ، وهم ذُروة قُرَيش ، سَلاسَة لِسان ، وفَصَاحة كَلام ، وسَماحة بيان؛ وأخوالُه من بني زُهْرة ، ورِضَاعه في سَعْد بن بَكْر ، ونشأته في قُرَيش ، وتزوَّج خَدِيجة وهي من بني أسَدٍ ، وكل هذه قبائل خصَّها الله بعِرْق في الفصاحة عَرِيق ، وسبب من البلاغة وَثِيق . . وكان ذلك كله إعدادا من الله لنبيّه ، ليَنْهَض بأتم دَعْوة ، وأكمل رسالة . . إذا تكلَّم خَشَعت القُلُوب من جَلال العِظَة ، وإذا خطب انقطعت الشُّبه لبلاغة الحُجَّة ، وامتلأت النُّفُوس اقتناعا بالحقيقة ، ورِضًا برأيه ، وامتثالا لأمره .
يقول الأستاذ مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله -:

لقد رَأَيْنا هذه البلاغة النبويَّة قائمة على أن كل لفظ هو لفظ الحقيقة لا لفظ اللُّغة ، فالعِناية فيها بالحقائق ، ثم هي تختار ألفاظها اللُّغويَّة على منازلها ، وبذلك يأتي الكلام كأنه نطق للحقيقة المُعبِّر عنها .
ومَعْلوم أنه- صلَّى الله عليه وسلَّم- لا يتكلَّف . ولا يتعمَّل . . ومع هذا لا تَجِد في بلاغته مَوْضِعا يَقْبل التنقيح ، أو تَعْرِف له رِقَّة من الشأن ، كأنما بين الألفاظ ومعانيها في كل بلاغته مِقْياس ومِيزان .


وكما عصمه الله من لَدُن طُفولته من الرِّجْس والدَّنس ، وحفظه من شُرُور الجاهليَّة وآثامِها ، كذلك عدَّل لسانه ، وقوَّم بيانه ، وأرْهَف مَنْطِقه ، وأفاض عليه من لَدُنه قوَّة بيان يستطيع بها أن يُناضِل عن دَعْوته ، ويُنافِح دون رِسالته .
وبعدُ فهذه صورة رائعة مُشرِقة من صُور بلاغة الهُدَى النَّبوي ، تُمثِّل لنا ما منحه الله لرسوله من فَصَاحة القول ، وإعجاز البيان ، وإصابة الرأي ، وقوَّة الحُجَّة ،
خطَب النبي- صلَّى الله عليه وسلم- في الأنصار عَقِب غَزْوة حُنَيْن ، حينما بَلَغه أنهم سَاخِطون على قِلَّة نَصيبهم من الغنائم ، فقال بعد أن حَمِد الله وأثنى عليه.
يَا مَعْشَر الأَنْصَارِ : مقالة بَلَغَتْني عَنْكُم ، وَجِدَة وَجَدْتُمُوها في أَنْفُسِكم؟ أَلَمْ آتِكُم ضُلالا فَهَداكُم الله ، وَعَالةً فَأغْناكُم الله ، وأَعْدَاءً فألَّفَ بَيْن قُلُوبِكم؟
قَالُوا: بَلَى ، الله ورَسُولُه أَمَنُّ وأفْضَلُ ،
ثم قال: " أَلا تُجِيبُونَنِي يَا مَعْشَر الأَنْصَار ؟
قَالوا: بماذا نُجِيبُك يا رَسُول الله؟ لله ورَسُولِه المَنُّ والفَضْل .
قال صلى الله عليه وسلم : أَمَا وَاللهِ لو شِئْتُم لقُلْتُم ، فَلَصَدَّقْتُم ولَصُدِّقْتُم ، أَتَيْتَنا مُكذَّبًا فَصَدَّقْنَاك ، ومَخْذُولا فَنَصَرْناك ، وطَرِيدا فآوَيْناكَ ، وعَائِلا فآسَيْنَاك أَوَجَدْتُم يا مَعْشَر الأنصار في أَنْفُسكم في لُعَاعَة مِن الدُّنْيا تَأَلَّفْتُ بها قَوْمًا لِيُسْلِموا ووَكَلْتُكم إِلَى إِسْلامِكُم؟

ألا تَرْضَونَ يا مَعْشَر الأنصارِ أنْ يَذْهَب الناسُ بالشَّاةِ والبَعِيرِ ، وتَرْجِعوا برَسُولِ اللهِ إلى رِحالِكُم؟ فوَالَّذِي نَفْسُ مُحمَّد بيَدِه ، لولا الهِجْرَةُ لكنتُ امْرَءًا مِن الأنصارِ ، وَلَو سَلَكَ الناس شِعْبًا وسَلَكَتِ الأنصارُ شِعْبًا لَسَلَكْتُ شِعْب الأنصار ، اللهُمَّ ارْحَم الأنصارَ وأبناءَ الأنصارِ ، وأبناءَ أبناءِ الأنصارِ " .
فبَكَى الأنصارُ حتى أخْضَلُوا لِحَاهم ، وقالوا: رَضِينا برَسُولِ اللهِ قَسْما وحظًّا .
كان الأنصار من أهم أسباب نَصْر المسلمين يوم حُنَيْن ، فقد انهزم المسلمون في بِداية المَوْقِعة ، ولكنَّ شجاعة الأنصار وسُرْعة التفافهم حَوْل النبي - صلى الله عليه وسلم- أعادت إلى المسلمين تَماسُكهم وإقدامهم فتَحقَّق النصر الكامل لهم . وبعد انتهاء المَعْرَكة قَسَم النبي الغنائم بين المسلمين ، فإذا الأنصار أقل الناس نَصِيبا في حِين أنهم كانوا يَتوقَّعون أن يكونوا أعظم المسلمين حَظًّا لِمَا أَبْلَوه وما حَقَّقوه من نصر ، وعندَئذٍ أخذت تَسْري هَمْهَمة قويَّة من الفتن والإشاعات بين الأنصار ، كان مصدرها ثلاثة أمور:
1)- شَباب الأنصار الذين لا يَعْرِفون حِكْمة الرسول - صلَّى الله عليه وسلم - وأهدافه على حقيقتها فالنبيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - كان في كُل الغنائم والهِبَات ، يُراعي أنَّ المال ليس هَدَفا لذاته ، وإنَّما هو وسيلةٌ يَسْتميل بها النُّفوس ، ويتألَّف بها القُلوب التي لم تَعْمُر بالإيمان بعد ، فكان يُفِيض من العَطاء على ضِعاف الإيمان ، وعلى الذين دَخَلوا في الإسلام حديثا ليزيد قُلوبهم ارتباطا بالدِّين ، أمَّا مَن يَثِق بإيمانهم فلم يَكُن يَهتمّ بعطائهم قلّ أو كثُر .
فراح هؤلاء الشَّباب يُردِّدون فيما بينَهم أنهم لم يأخذوا حقَّهم من الغنائم .

2)- كان الأنصار يَفْزَعون لمُجرَّد تَصوُّرهم أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- سيترُك الإقامة في المَدِينة ، ويَنْتقِل إلى مَوْطِنه الأصلي في مَكَّة حينما يَفْتحها ، وكان النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- حينَئذٍ قد فتح مكَّة ، واتَّجه إلى الطائف حيثُ دارت مَعْرَكة حُنَيْن ، والمفروض أنه سَيعود إلى مكَّة ، فكان الأنصار يَخْشَون كل الخَشْية أن يُقِيم فيها ولا يعود إلى المدينة ، فحينما وَجَدوا نصيبهم من الغنائم قليلا قَوِي هذا الخوف في نُفوسهم .

3 )- كان بين المُسلمين مُنافِقون يَنْدسُّون في خَفاء ، ومن مَصْلَحتهم دائما إثارة الفِتَن بين المُسلمين ، والأوقات العصبيَّة كالحروب هي أنسب الأوقات لنَشْرِ الفِتَن ، وبثّ الإشاعات ، حيثُ تكونُ النُّفوس قَلِقة غير مُستقِرَّة ، يَسْهُل أن تتقَبَّل أيّ شيء فانتهز المنافقون هذه الفُرْصة ، وأخذوا يُشيعون بينَ الأنصار هذه الوَساوس من تَفْضِيل النبيِّ لقبائل كثيرة مُحْدَثة في الإسلام على الأنصار ، ومن أنه سيترك المدينة ويُقِيم بين أهله في مَكَّة ، ونحو ذلك مِمَّا ملأ نفوس كثير من الأنصار بالمَخاوف والوساوس ، وعندما أحسَّ النبي - صَلَّى الله عليه وسلَّم- بهذه الفِتْنة أمر أن يَجْتمِع الأنصار فاجتمعوا وألقى فيهم هذه الخُطْبة .

والنبي- صلَّى الله عليه وسلَّم- بدأ خُطْبته 

أولا :
===
بهذا التمهيد المُوجَز المُركَّز ، الذي يَمْلأ نُفوس السامعِينَ اقتناعا وتسليما ، فهو يُذكِّرهم في صُورة سؤال
أَلَم آتِكُم ضُلالا فَهَداكُم الله؟ 
وليس أحد من الأنصار أو غير الأنصار من المسلمين يَشُك في أن الرسولَ هو سبب هِدايتِهم إلى الله ، ولولاه لم يكونوا مُسلمين . فهذه حقيقة لا نِزاع فيها بينَ أحدٍ منهم . وكذلك كونهم فُقَراء فأصبحوا بالغنائم وموارد الإسلامِ أغنياء ، حقيقةٌ أخرى لا يُنازِعون فيها ، وكذلك كونهم كانوا أعداء دَائِمي التَّصارُع والتقاتُل أمر لا يتنازعون فيه لأنه كان واضحا ومَعْروفا لهم ولغيرهم وكون الرسول- صلَّى الله عليه وسلَّم- كان سَبَبا في تآلُفِهم وتآخِيهِم أمر واضح ومُسلَّم من الجميع .
وإذن فهذه حقائق مُسلَّمة ، يُذكِّرهم بها الرسول ، ليَلْفِت نظرهم مُقدَّما إلى أنهم مَهْما كان من جَهْدهم وتضحيتهم في سبيل الإسلام ، فإن فضله عليهم أعْظَم وأسْبَق ، وحيثُ كانوا يُسلِّمون بذلك ولا يُنازعون فيه ، فإن نُفُوسَهم تكون بهذا التمهيد قد بدأت النظر للموضوع نظرة تَخْتَلِف عن نَظْرتها قَبْله ، وبهذا يكون من أهَمّ العوامل في تَغْيِير مَجْرى تَفْكيرهم ، وفي جَذْبِهم إلى موضوع الخُطْبة بعقل مُقْتَنِع مُقدَّما بأن الذي يُخاطِبُهم صاحب أفضال بالغة العِظَم ، ولا يُقَلَّل من عِظَم هذه الأفضال ما يُقدِّمونه له وللإسلام .

و هذا التمهيد ليس من باب المَنّ والتفضُّل ، وإنَّما هو سَرْد حقائق واضحة دعت إليها ضرورة التخاصُم أو التجادُل ، وبُدون هذا التمهيد يَصْعُب الوُصول إلى إقناع بعض السامعِينَ ، خاصَّة في هذا الوقت المُضْطرِب الذي يَموج بالفِتْنة ، ومُعْظَمهم حينَئذٍ كان يَرْبط بين نصيبه من الغَنِيمة ومنزلته في الإسلام وفي نفس الرسول .

ثانيـــا :
====

وحتى يَقْتَلِع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- كل جُذُور الفِتْنة ، وحتى يَسُد كل مَنابِع الوَساوس والهواجس في نُفوس الأنصار فقد آثَر أن ينهج معهم من حيثُ الشكل المَظْهري مَنْهج الخُصومة . فقد صَوَّرهم في صُورة الخَصْم الذي يُدافع عن حَقّه وعن وِجْهة نظره ، ولكنَّ حِكْمة الرسول البالغة السُّمُو تجعله ينوب عنهم في هذه الخُصومة ، مُدَافِعا عنهم ، وعارضا وِجْهة نظرهم كاملة ، مع أن المَفْروض أنها خُصومة ضِدّه هو . وذلك ليَقْتَلِع من نُفُوسهم كل الوَساوس والشكوك . فصَوَّرهم في صُورة الخَصْم الذي يَشْحَذ كل فِكْره ليستجمع حُجَجه وأسلحته في الخُصومة وأخذ هو يَعْرِض هذه الحُجَج على طريقة العرب في المُفاخَرة والمُنافَرة .
وقد آثَر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- أن يُخاطِبهم بالمألوف والمُتداوَل في المُجْتمَع ، حتى يُعْطيهم حَقّهم كاملا في الخُصُومة ، وحتى يَشْعروا بأنهم أدْلَوا بكل ما لَدَيْهم من حُجَج .
وهذا الوضع هو الذي يُريح نُفوسهم ، ويَسْتلّ كل ما فيها . ولذلك بعد أن عرَض النبي فضله عليهم فيما ساقه من التمهيد ، كأنه انتظر أن ينوب عنهم شَخْص يُوضِّح موقفهم في الخُصُومة ، بأن يَعْرِض فضلهم على الرسول وعلى الإسلام . ولَمَّا لم يتقدَّم أحد ،

قال - صلَّى الله عليه وسلَّم : 

===========

ألا تُجِيبُونِي يَا مَعْشَر الأَنْصَارِ يعني ألا تَرُدُّون عَلَيّ كما يرُد الخَصْم على خَصْمه؟
ولكنَّ الأنصار أبَوْا أن يَقِفوا من النبي مَوْقِف الخَصْم ، وإذا كل رَدِّهم بماذا نُجِيبُك يا رَسولَ الله ؟ لله ورسوله المَنُّ والفَضْل 
ولكنَّ حِكْمة الرسول ونفاذ بَصِيرته تُعلِّم أن هذه إجابة الإيمان ، وإجابة العقل والمَنْطِق ، ثم تَبْقى بعد ذلك في النفس الَأمَّارة بالسُّوء وساوسها . فلا بُد أن يبرز هذه الوساوس على السطح ، وذلك بإبراز العوامل أو الأسباب التي تستند إليها .
ولذلك نَاب هو عنهم بأبْلَغ ما كان يُمْكِن أن يَتمَثَّلوا به هم ، فقال لهم ما مَضْمُونه: إنَّكم تَسْتَطيعون أن تَقُولوا وأنتم صَادِقون: إنَّ أهلك وقومَك وأقرب الناس منك كَذَّبوك فصَدَّقْناك نحن ، 
وأتيتَنا مُسْتضعَفا مَغْلوبا فنَصَرْناك ،
وأتيتَنا طَرِيدا فآويناكَ وأسبغنا عليكَ الأمْن والقوَّة ،
وجئتَنا فَقِيرا مُحْتاجا فساعدناك ومَسَحْنا عنكَ الفَقْر والفَاقَة .
ولنا أن نتصور الأنصار وقد أخذت منهم الدَّهْشة ، وبلغ منهم الذُّهول ، فهم لو وقفوا من الرسول مَوْقِف الخُصومة ، ومهما حَشَدوا من حُجَّة ، فلن يأتوا بمِثْل هذه الحُجَج أو لن يزيدوا عليها في أقصى الفُروض .
وهناك فوق ذلك أمر يملأ نُفُوسهم عَجَبا ، ويأخذ على قُلُوبهم وعُقُولهم كلَّ أقطارها إعجابا بخُلُق الرسول وحُبًّا له ، وهو أن الرسول يَشْعُر بأن الأنصار لهم كل هذه الأفضال والأنعم عليه ، فأقْصَى ما قد يشعر به الأنصار أنهم أحْسنوا إلى الرسول وإلى الإسلام ، أمَّا هذا الفيض العظيم الذي يُعدِّده الرسول من أفضالهم عليه فهذا مَا لم تَتحدَّث به ألسنتهم وإن كان أقصى أمانيهم أن يكون في نَفْس الرسول شُعُور بأن لهم هذا الفَضْل . ومن الواضح حينئذٍ أن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم- بهذا العُنْصر قد جعل نُفوس الأنصار وقُلُوبهم في أقصى حالات التهيُّؤ والانشراحِ لكل ما يقول ، فقد أذْهَب كلّ ما فيها من مَوْجِدة . وإذا كان هناك بَقِيَّة من وَساوس فإن أيّ قول يَصْدُر منه بعد ذلك في معالجة هذه الوساوس سيكون مقبولا . وهذا هو عنصر ( التهَيُّؤ ) .

ثالثـا :
===

وتأتي بعد ذلك مُناقَشة الموضوع الأساسي للخُطْبة ، وقد أصبحت نُفُوسهم بالعُنْصر السابق مُستعِدَّة كل الاستعداد لكل مَا يقوله الرسول حول هذا الموضوع
وأمَّا النبي - صلى الله عليه وسلم- فقد جعل المُناقشة شاملة على إيجازها ، ومُستوعِبة للمَوْضوع من كل جوانبه كما يلي:

أ - ) غَضِب الأنصار لقِلَّة نصيبهم من الغنائم ، وتَوهُّمهم أن ذلك قد يُصغِّر من شأنهم بين الناس ، وقد ناقش النبي هذا الجانب بعَرْضه في صُورة أدبيَّة تُجَسِّده في النُّفوس ، حيثُ شبَّه كل هذه الغنائم والأموال التي يتزاحمون عليها بشيء من النبات الضعيف الصغير وهو اللُّعاعة بضم اللام ، مُشِيرا إلى أن مَتاع الدنيا كله تَافِه يَسير لا يَنْبَغِي أن يكون مَوْضِع التزاحُم والتخاصُم . ثم بيَّن الحِكْمة في إيثار بعض القبائل الأُخْرى على الأنصار في أنصبة الغنائم ، وهي " تَألَّفْتُ بها قَوْمًا ليُسْلِموا " أمَّا الأنصار فهو واثق من إسلامهم ، ولذلك لم يكونوا في حاجة إلى أن يُعطيهم ما يستميلهم به ، ولذلك يقول لهم : " وَوَكَلْتُكْم إلى إِسْلامِكم " فقد ساق لهم النبي في هذه الفِقْرة ثلاثة معان.

أحدهــا : تَفاهة مَتاع الدنيا مهما كثُرَ ،

والثاني : أن كَثْرة العطاء ليست دليلا على عُلُوّ الشأن ، بل على العكس دليل على عدم الثِّقَة في إيمان مُعْطاها .

الثـالث : أن النبي مُطمَئِن إلى إسلام الأنصار ، ولذلك لم يكن في حاجة إلى أن يَتألَّف قُلُوبهم .

ب- ) خَوْف الأنصار من أن يَتْرُكهم النبي ويُقِيم في مَكَّة مَوْطِنه الأصلي . فقد سَرَى الهَمْس ، وتزايدت وَساوس الأنصار ومَخَاوفهم من أن النبي وقد فتح مَكَّة قد يترك المَدِينة ويعود إليها حيثُ مَنْبَتُه وأهله ومَرْتَع صِباه وشبابه . وهذا المعنى جانب أساسي من المَوْضوع الذي تُعالِجه الخُطْبة .
وهي تَحْسِم هذا المعنى بأُسلوب لا تَعْرف الخَطَابة أشدَّ منه وَقْعا في النُّفوس وأبلغ منه تَغْلغُلا فى المشاعر ،
فالنبي - صلى الله عليه وسلم- لا يكتفي بأن يقول لهم : إنه سيرجع معهم إلى المدينة ، وإنما يُقارن كَسْب الأنصار في رُجوعه معهم بكَسْب غيرهم من شِيَاه الغنائم وإبلها ، 
حيثُ يقولُ في صورة السؤالِ الذي يُجسِّد هذا المعنى في نفوسهم : 
ألا تَرْضَوْنَ يَا مَعْشَر الأنصارِ أنْ يَذْهَب الناسُ بالشَّاةِ والبعيرِ وتَرْجِعُوا برَسُولِ اللهِ إلى رِحَالِكم؟ .
وبهذا تكونُ الخُطْبة قد حَسَمت الموضوع بصُورة تُقلِّب كِيان تَفْكِير الأنصار كله ، حيثُ بيَّنت لهم من حيثُ الغنائم أن أنصِبَة الغنائم لُعاعة تُسخَّر لخِدْمة الإسلام ، فلا يَنْبغي للمؤمن أن يَجْعلها هَدَفا وَغَاية لجِهاده في سبيل الله ومن حيثُ الإقامةُ بيَّنت لهم الخُطْبة عِظَم نصيبهم إذا قارنوا استئثارهم بشخص النبي في إقامته بينهم بنصيب غيرهم من الإبل والغَنَم .

ج- )وهو لا يكتفي باقتناعهم بأنهم كانوا مُخْطِئِين في ظُنونِهم وهَواجِسهم ، وأنهم من تلقاء أنفسهم سَيعودون إلى ما كانوا عليه من حُبِّهم للنبي وتفانيهم في هذا الحب بل يَخْشى أن يَظُن الأنصار أن موقفهم هذا قد يُغيِّر قليلا أو كثيرا من حُبّ النبي وإيثاره لهم فيؤكِّد لهم بأكثر من صُورة أنه لم يُغيِّر رأيه فيهم ، ولا موقفه منهم ، بل يكشف لهم عن جوانب من حُبّه لهم لعلَّه لم يكشفها لهم قبل اليوم بهذه الصورة أو بهذه الدَّرَجة من الوُضوح ، 
فيقول لهم: فوَالَّذِي نَفْسُ مُحمَّدٍ بيدِه ، لولا الهِجْرَة لكنتُ امْرًأ مِن الأنصارِ ، ولو سَلَكَ الناسُ شِعْبا ، وَسَلَكتِ الأنصارُ شِعْبا لسَلَكْتُ شِعْبَ الأنصارِ فماذا يَتمنَّى الأنصار أبعد من هذا ، وأيّ حلم يُراوِد أمانيهم أعْظَم من أنَّ الرسول يَتمَنَّى أن يكون واحدا منهم لولا أنَّ الهِجْرة في سبيل الله مَنْزِلة رَفَعها الله وهو فيها ، فلا يَمْلِك خَفْضَ شيء رفعه الله . وأيّ خيال في الأماني والأحلام رَاوَد نُفوسهم أعظم من أنهم لو كانوا في طريق والناس جميعا في طريق آخَر ، فالنبي يَتْرُك طريق الناس جميعا ويَخْتار طريقهم؟

د- )بل إن الخُطْبة تُراعي أبعد جَوانب المَوقِف واحتمالاته فقد يَتوهَّم بعضهم أن هذا الرِّضا من جانب النبي مُنصَبّ على الرجال الكِبَار من الأنصار الذين تَرْبِطهم بالنبي صِلَة مُباشِرة وثيقة ، وأنَّ الشباب والصِّغار قد لا يَكونون في حُسْبان النبي أو فيمن يعنيهم بهذه الخُطْبة ، فيُبيِّن لهم النبي ضِمْنا أنهم أيضا في حُسْبانه وفيمن يَعْنيهم ، بل تذهب الخُطْبة إلى أبعد الاحتمالات في كَسْب القلوب ، حيثُ تُراعي جِيلا قادِما من الأنصار لم يُوجَد بعدُ . هذا الجِيل سينقل إليه هذا المَوْقِف من أجداده الأنصار ، وقد يقولون أو يقال لهم لعلَّ النبي وَجَد في نفسه شيئا من مَوْقِف آبائكم أو أن مَوْقِف أجدادكم كان كذا وكذا ، فالخُطْبة قد تُشِير إلى مُراعاة هذا المَدَى البعيد بالإضافة إلى كَسْب قُلوب الأنصار أنفسهم بالدعاء لأبنائهم وأبناء أبنائهم ، فيقول لهم - صلَّى الله عليه وسلَّم: اللهُمَّ ارْحَم الأنصار ، وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار .

هـ - )ولهذا كان أبلغ ما أجاب به الأنصار النبي هو دُموعهم الغَزِيرة التي تَدفَّقت من قُلُوب مَلأها الحُبّ والإيمان ، وهزَّها الندم والتأثُّر ، وإذا هذه الدموع تظل تنسكب حتى تُبلِّل اللِّحى ، ثم يقولون: ( رَضِينا برسولِ الله قَسْما وحَظًّا ) .

منقول بتصرف عن :
مجلة البحوث الإسلامية
الدكتور : حسن جاد

الأحد، 12 يناير 2014

كلام ربـــــــــــــــــــــــــــي :

كلام ربـــــــــــــــــــــــــــي :
===============
قال الله تعالى :

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ

اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّه  لبا س الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[ سورة النحل: 112]



في هذه الآية كلمة : ( آمنــــــة )، ونعمة الأمن لا تعدلها نعمة على 

الإطلاق، حينما تكون آمناً في سربك،


لا تتوقع مصيبة،

ولا قتـــــــــلاً،

ولا اغتيـــــــالاً،

ولا قلقــــــــــاً،

ولا افتقـــــــاراً،

حينما تشعر أنك بنعمة سوف تستمر معك،
----------------------------------

هذه نعمة لا تعدلها نعمة، لذلك اعتقدوا يقيناً أن هذه النعمة من خصائص المؤمن وحده،

أما أن الأمن من خصائص المؤمن وحده، فهناك دليل قطعي:

قال الله تعالى :

﴿ فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ
 لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ )[ سورة الأنعام: 81-82]

نعمة الأمن لا يعرفها إلا من فقدها :
-----------------------------

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ

 اللَّــــــــــــــهِ )

فســــــــــــــــــــــــــــــــــــــق،

فجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــور،

زنــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا،

واختــــــــــــــــــــــــــــــــلاط،

وخمــــــــــــــــــــــــــــــــــــر،

وملاه ليليـــــــــــــــــــــــــــــة،

ونساء كاسيات عاريـــــــــات،


ونعمة الأمن قد لا نعرف قيمتها إلا إذا عشنا في بلد اضطرب فيه حبل الأمن،
 فلذلك الآية اليوم:
--------------

﴿ وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ

 اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ

بسبب معاصيهم والدليل:
--------------------

قال الله تعالى :﴿ أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ
[ سورة قريش:4]

نعمتان لا تقدران بثمن :
--------------------


أن تكون  :  آمنــــــــــــاً  و  شبعــــــــــــــــاناً .


والحمد لله رب العالمين
============