الأحد، 3 نوفمبر 2013

إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور


إن فى ذلك لآيات لكل صبار شكور
===================

هناك أربع آيات في القرآن الكريم خُتمت بقوله تعالى: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور}، 
الأولى: قوله تعالى: {ولقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور وذكرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (إبراهيم:5).

والثانية: قوله سبحانه:
{ألم تر أن الفلك تجري في البحر بنعمة الله ليريكم من آياته إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (لقمان:31).

والثالثة: قوله تبارك وتعال
ى: {فقالوا ربنا باعد بين أسفارنا وظلموا أنفسهم فجعلناهم أحاديث ومزقناهم كل ممزق إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (سبأ:19)،
والرابعة: قوله عز وجل
: {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (الشورى:33).

والملاحظة الأول
ى التي نسجلها قبل تحليل قوله تعالى: {صبار شكور}، أن ثلاث آيات من هذه الآيات الأربع، جاءت في سياق النعم التي أنعم الله بها على عباده، في حين أن الآية الرابعة - وهي آية سورة سبأ - جاءت في سياق الحديث عن قوم سبأ الذين كفروا بأنعم الله، وجحدوا فضله.

والملاحظة الثانية
التي تستدعي نفسها في هذا المقام، هي أن هاتين الصفتين: {صبار شكور}، من صيغ المبالغة، التي تفيد المبالغة في فعل شيء ما، كقولنا: فلان حماد، أي: كثير الحمد.

والملاحظة الثالثة
هنا، ما روي عن عون بن عبد الله، قوله: فكم من مُنْعَمٍ عليه غير شاكر، وكم من مبتلى غير صابر. وقال قطرب - وهو أحد أئمة اللغة -: نعم العبد الصبار الشكور، الذي إذا أعطي شكر، وإذا ابتلي صبر.

وأقوال المفسرين من المراد من هاتين الصفتين متقاربة غير متباعدة، ومتكاملة غير متنافرة؛ فالإمام البغوي يقول: و(الصبار): الكثير الصبر، و(الشكور): الكثير الشكر، والمراد من هذين الوصفين كل مؤمن؛ لأن الصبر والشكر من خصال المؤمنين.

و القرطبي يقول: صبار على البلوى، شكور على النعماء.

وقال ابن كثير : صبار في الضراء، شكور في السراء.

و الآلوسي يقول: صبار في الشدة، شكور في الرخاء؛ لأن حال المؤمن، إما أن يكون حال محنة وبلية، أو حال منحة وعطية؛ فإن كان الأول، كان المؤمن صباراً، وإن كان الثاني كان شكوراً. وهذا تنبيه على أن المؤمن يجب أن لا يخلو زمانه عن أحد هذين الأمرين، فإن جرى الوقت على ما يلائم طبعه ويوافق إرادته، كان مشغولاً بالشكر، وإن جرى ما لا يلائم طبعه كان مشغولاً بالصبر.

أما ابن عاشور فيقول: والجمع بين { صبار } و{ شكور } في الوصف؛ لإفادة أن واجب المؤمن التخلق بهذين الخُلقين: الصبر على المكاره، والشكر على النعم.

والشيخ السعدي يقول: صبار على الضراء، شكور على السراء، صبار على طاعة اللّه، وعن معصيته، وعلى أقداره، شكور للّه، على نعمه الدينية والدنيوية.

ثم وراء ما ذكره المفسرون من المراد من هاتين الصفتين، يذكر بعض أهل العلم كلاماً لا ينبغي أن يغفل عنه في هذا المقام، وهو أن سبحانه قد أنعم على الإنسان بنعم كثيرة، بحيث إنه لو أراد أن يحصي هذه النعم لما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وقد قال تعالى: { وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها } (إبراهيم:34). وذلك أن الإلفة والعادة التي يعيش في ظلها الإنسان تجعله لا يحس بقدر هذه النعم التي أنعم الله بها عليه، ولا يعرف قيمتها إلا إذا فقدها. والأصل هو معرفة الإنسان بنعم الله عليه قبل فقدها، والتوجه إليه بكل جوارحه شاكراً لأنعمه، منيباً إليه.

وعندما تسلب هذه النعم من الإنسان - لحكمة يريدها الله - تفرض العبودية عليه أن يلتزم بالصبر الجميل، ويلجأ إلى الله طالباً كشف الضر عنه، وعليه أن لا يتصرف تصرفاً ينافي العبودية لله، والاستسلام لقضائه وقدره. وقد جاء في الحديث الصحيح: ( عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن؛ إن أصابته سراء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له ) رواه مسلم ، فهذا الحديث نابع من مشكاة هذين الوصفين اللذين ذكرهما القرآن الكريم.

وحُقَّ لك أن تسأل هنا: لماذا ذكر القرآن الكريم هاتين الصفتين بصيغة المبالغة؟ وفي الجواب يقال:

لما كانت لا توجد نعمة من النعم التي أنعم الله بها على الإنسان صغيرة، بل كل نعمه سبحانه عظيمة وكبيرة، فأقل عضو من أعضائه يقوم من المهام التي لا يمكن إحصائها، ويحمل من النعم التي لا سبيل إلى إدراكها، وإذ الأمر كذلك، فقد استدعى من المُنْعَم عليه أن يكون كثير الشكر، عظيم الصبر.

والنبي أيوب عليه السلام (بطل الصبر) - كما يقول الشيخ بديع الزمان النورسي -، بعد أن أخذ الله منه جميع النعم الدنيوية التي أنعمها عليه، لم تتغير حاله ولا أطواره، ولم ينحرف إلى اليأس أمام المحن والشدائد التي واجهته، بل تصدى لها بعزم وثبات ورباطة جأش؛ لأنه كان يدرك المعنى الحقيقي لأسباب المحن والمشقات؛ ولأنه أيضاً كان يدرك جيداً أن وراء كل محنة منحة، وخلف كل مصيبة لطيفة؛ لذا كان قلبه مفعماً بالإيمان، ولم ينزلق إلى القلق، بل توجه إلى ربه بالشكر والصبر، { إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب } (ص:44).
.
.
ثم إن هذه الآيةالرابعة {إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} (الشورى:33).
جاءتْ بعد قوله تعالى
{ وَمَآ أَصَـٰبَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ.. }
[الشورى: 30] فالمصائب أيضاً تحتاج إلى الصبَّار الشكور؛ لأن المصيبة حين تنزل بالمرء لا تصيب كلَّ الأعضاء ولا تأتي عليه كله، فالله يصيبك في شيء ويعافيك في أشياء، فالمصاب يحتاج إلى صبر والمعافى يحتاج إلى شكر.

لذلك رُوِي أن سيدنا عبد الله بن جعفر لما ذهب إلى الشام جُرحَتْ رِجْله وهو في الطريق، ولم يجد مَنْ يعالجه لطول المسافة، فقاحتْ وحدث بها تلوث وأصابتها الغرغرينة، فلما بلغ دمشق ونزل في ضيافة الخليفة أتوا له بالأطباء. فقرروا بترها والتمسوا له (مُرقَّد) وهو مثل البنج الآن كي لا يُحس بالألم، لكنه رفض ذلك وقال: والله ما أحبُّ أنْ أغفل عن ربي طرفة عين، وفعلاً قطعوا رِجْله دون تخير، لأن الذي يتمتع بهذه المعية ويشعر بهذا الشعور حقيقٌ ألاَّ يشعر بألم وهو في معية الله.

هذه المعية التي احتمى بها سيدنا رسول الله وصاحبه في الغار حين قال له: لا تحزن إن الله معنا، أبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، فيقول له صلى الله عليه وسلم: " يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟ " ذلك لأنهما في معية الله، والله لا تدركه الأبصار، وكذلك من كان في معية الله منحه الله شيئاً من هذه الصفة.

فلما قال سيدنا عبد الله بن جعفر: ما أحبُّ أن أغفل عن ربي طرفة عين قطعوا رِجْله وهو في هذه الحالة فلم يشعر بألمها، فلما أرادوا أنْ يدفنوها أمسك بها وقال: اللهم إنْ كنتَ ابتليتَ في عضو فقد عافيتَ أعضاء. إذن: هذا مثال للعبد الصبار الشكور، صبار على المصيبة شكور على النعمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق